الفلسفة الطبيعية

علماء الشرع المسلمون خاضوا معركة فكرية كبيرة نسيناها الآن، كانت ضد الفلاسفة الطبيعيين. كلمة فلاسفة طبيعيين كانت تقال للتجريبيين وقتها، المتأثرين بكتب أرسطو عن الفيزياء والكون. أفكار أرسطو وأفلاطون تسللت للثقافة الإسلامية بسبب انبهار المأمون بالإغريق وفلاسفتهم، وجعل النصارى والصابئة يترجمون هذه الكتب وينشروها بين المسلمين. كان لهذا آثار سيئة على العقيدة، وظهرت مذاهب منحرفة، كإخوان الصفا وخلان الوفا، وانتشار فكرة تأثير الأجرام على حياة البشر: التنجيم. ما يخصنا هنا هو تسلل أفكار أرسطو عن الكواكب والنجوم للفلاسفة الطبيعيين المسلمين وقتها. كلمة طبيعي = فيزيائي، وكانوا - كما يحدث الآن - يحاولون تفسير "سبب" حركة الكواكب!! ومن هنا بدأ الانحراف. وقد رد عليهم الرازي في تفسيره، وهزمهم ابن تيمية في مؤلفاته الضخمة، لأنه كان متخصصا محايدا ويفهم أفكارهم ثم يهدمها من داخلها.

أين كان الخطأ؟.. الخطأ كان في محاولة إيجاد تفسير "طبيعي" لحركة الأجرام.. فاخترعوا حكاية "المحرك الأول"، وقالوا أنه يجب أن يكون هناك كرة ضخمة تحيط بكرة فلك النجوم، وأن هذه الكرة تحركت حركة أولى عند بدء الخليقة، ثم أن الحركة انتقلت، بالتماس، لكرة فلك النجوم، التي تحركت بالتبعية فأثرت على كرة زحل، ثم بالتوالي والتتالي انتقلت الحركة من المحرك الأول الأعظم إلى باقي الأجرام!

هذا التفسير الفيزيائي خاطئ، ومثله محاولة كبلر لإيجاد سبب "طبيعي" ذاتي لحركة الأجرام، ومثله نيوتن، ومثله أينشتاين.

ما فاتهم هو أن فيزياء الأرض لا يجب بالضرورة أن تكون فيزياء السماء، لسبب بسيط هو أن السنن الأرضية التي وضعها الله للإنسان لا تحتاجها الأجرام السماوية. ولن يستطيع الإنسان العبث بحركة الأجرام أبدا ولا تغييرها، حتى لو فجر مليون قنبلة نووية على القمر أو على المريخ!.. فانتثار الكواكب سيحدث يوم القيامة لا في الحياة الدنيا. والإنسان بقدراته مسلط على ما في الأرض، وله أن يستفيد مما في السماء، لكن ليس له سلطان تغييره أو العبث به.

ما يمكننا هو أن ندرس حركاتها، ثم نتوقعها، ونحسبها، وندرس خصائصها، لكن كل نظريات تفسير "سبب" و"دافع" الحركة هي نظريات عبثية، تماما كنظريات "كيف تكونت" التي يمطرنا بها الفلكيون كل فترة، وهي تخرصات ساذجة من غربيين مغرورين ظنوا أن بإمكانهم أن يعرفوا بداية الخلق دون أن يقرؤوا كلام الخالق عن بداية الخلق!!..

وسبب خطئهم هو: اعتمادهم على قاعدة خاطئة تحكم كل تصوراتهم ونظرياتهم. يظنون أن "ما يحدث الآن كان يحدث في الماضي، بنفس المعدل، وأن الأمور اطردت وتطورت بطريقة طبيعية، وأنه بدراسة الحالي يمكن معرفة الماضي وبدايته". هذه القاعدة قد تبدو في الظاهر صحيحة لكن عند التطبيق سترى بوضوح أنها خاطئة!.. مثلا: تتراكم التربة حاليا في المكان الجغرافي الفلاني بمعدل كذا في السنة، ثم بتطبيق الجيولوجيين لقاعدتهم "الطبيعية" يستنتجون أن الطبقة الأرضية الفلانية كانت موجودة على السطح سنة كذا، بعملية حسابية بسيطة. الخطأ هو عدم أخذهم في الاعتبار حدوث فيضانات جرفت كمية هائلة من التراب ووضعتها في يوم واحد في هذا المكان! وبهذا يختل حساب الجيولوجيين تماما، حيث ينظرون للطبقة على أنها تكونت في آلاف السنين مع أنها في الحقيقة، لو كانوا حاضرين وقتها وشاهدوا بأنفسهم، تكونت في يوم أو بعض يوم!

ولهذا السبب يعتبر طوفان نوح من أكبر عوامل خداع الجيولوجيين والأثريين. لكن هذا ليس موضوعنا.

بالمثل، عندما ينظر الفلكيون للشمس وللكواكب يرون أنها تتحرك، وأن القمر به فجوات.. فيطبقون القاعدة ويستنتجون مثلا أنه بما أن معدل دوران المريخ الآن هو كذا، وبما أن حركته ذاتية طبيعية وليس محكومة بقانون إلهي، إذن كانت سرعته قديما أكبر ثم تباطأت مع الوقت. وينظرون للشمس فيقولون أن "سبب" توهجها ليس لأنه تم إيجادها وتسخيرها للإنسان، بل لأنها نتيجة انفجار عشوائي وأنها ستنضب بعد كذا مليون سنة وستستهلك طاقتها، إلخ.
هذه النظرة خاطئة لأنها مبنية على تصور خاطئ لـ"سبب" وجود الشمس والكواكب والقمر أصلا!! وتصورهم لا يمكن فصله عن الفكرة الإلحادية الطبيعية المسيطرة عليهم. لأنهم مقتنعون أنه لا يمكن أن يكون هناك "دافع" وراء خلق الشمس، وبالتالي لا يتصورون أبدا أن يكون قد تم خلقها، بهيئتها هذه وقوتها هذه، في لحظة واحدة خلال يوم من أيام الخلق الستة!!
هذه الفكرة مرفوضة عندهم رفضا تاما، ويعتبرونها من الفكر الأسطوري الديني. ولنفس السبب لا يقبلون ما يقوله القرآن عن أن الأرض تم خلقها قبل السماء، وقبل الأجرام السماوية، بما فيها الشمس!..

منذ فترة كانت النظرية السائدة عن "تكوّن" القمر هي أنه كان جزءا من الأرض ثم انفصل. ثم لما جاءت أحجار من القمر وجدوا النظرية غير صحيحة، فحاولوا اختراع نظرية جديدة مضحكة أترك لكم البحث عنها لمعرفة سذاجتها.. وهي نظرية الكوكب الزائر، التي لا دليل عليها سوى أنها نبعت في عقل أحدهم فأعجبته فنشرها!

التجريبيون يرفضون فكرة أن الأشياء في البدء خُلقت هكذا، تامة كما هي، من العدم، ولهذا أرى أن نظرياتهم عن تكوين الكواكب والأرض والشمس هي مجرد دارونية فلكية!!.. قليل من الباحثين الإسلاميين انتبه لهذه النقطة للأسف. وقد زاد الإعجازيون الطين بلة عندما تبنوا النظريات الغربية الفلكية عن تكوين العالم ثم ربطوها بالآيات! ولا أخاف من وصف د/زغلول النجار وأتباعه بأنهم من دعاة الدارونية الفلكية ونظرية تطور الكواكب عبر ملايين السنين من أجسام ملتهبة إلى شكلها الحالي. لكن هذا ليس موضوعنا الآن.

وعود على بدء، أتوقع أن الغرب لن يصل أبدا لـ"نظرية كل شيء" التي يحلمون بها، والتي تجمع، في معادلة واحدة، بين ميكانيكا الكم في الجزيئات والذرات، وبين "ميكانيكا" السماء. لسبب بسيط هو أن ميكانيكا الأشياء على الأرض لا تحكم حركة الأجرام.
وأضيفها لقائمة النظريات والأحلام المستحيلة التي يضيعون فيها الوقت والمال.. كخلق كائن بيولوجي في المعمل، أو تكوين ذكاء صناعي حقيقي له القدرة على التفكير المستقل، إلخ

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

100 Arabic words in Frank Herbert's Dune

Darth Vader's Jewish Origin - The Golem of Star Wars

الفلك وفلكة المغزل