فتنة سليمان.. ملاك لا شيطان
وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
ص 24
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ
ص 34
يقول العثيمين عن قصة تجسد شيطان في صورة سليمان وسرقة "خاتم" الملك، إلخ.. أنها: باطلة بلا شك.
ثم يقول:
"ما ذكر بأنه الولد الشق، فالظاهر أنه ضعيف. بقي عندنا قولان: أحدهما أنه شيطان سُلّط على كرسي سليمان فبقي فيه وصار يدبر شؤون المملكة [أي بلا وجود خاتم ولا شبيه]، والثاني أنه سليمان نفسه سلب الله منه التفكير وتدبير شؤون المملكة فصار لا يحسن التدبير.
هذان القولان محتملان، وأقربهما إلى اللفظ الأول، أي أنه شيطان ألقي على الكرسي، لأن (جسدا) نكرة تقتضي أن يكون الملقَى غير الملقى على كرسيه، ولكن الثاني أقرب من حيث المعنى، يعني أن الله إذا سلب الإنسان عقله وتفكيره وسلطته فهو بمنزلة الجسد"
انتهى الاقتباس، من استدراكات الشيخ ابن عثيمين على تفسير الجلالين.
وقد درست المسألة من ناحيتين، قرآنية (بتتبع استخدام كلمة "جسد" في القرآن)، وإسرائيلية (بتتبع مصادر يهودية منسية)، فظهر لي رأي خامس.
أن المتجسد لم يكن شيطانا، بل ملاكا!
[يضاف لهذا أن قصة داود المذكورة في نفس السورة (سورة ص) فيها أيضا ملائكة متجسدة (حسب أشهر الأقوال في تفسير قصة الخصمين والنعاج)]
[وقصة الأقرع والأبرص والأعمى في بني إسرائيل (في البخاري ومسلم) عن اختبار الملائكة للبشر بالتجسد في صورة شخص مسكين]
- قال ابن حجر العسقلاني:
"حكى النقّاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيه.. وقد تقدم قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالجسد المذكور شيطان، وهو المعتمد.. والنقّاش صاحب مناكير"
قال المودودي في تفسيره (المترجم عن الأردية إلى الإنجليزية):
Then in the Hadith nowhere has it been said that the body that had been placed on Solomon's throne, as stated in the Qur'an, implied the malformed child. Therefore, it cannot be claimed that the Holy Prophet had narrated this event as a commentary of this verse.
[لم يرد في الحديث إطلاقا أن الجسد الذي وُضع على عرش سليمان هو نفسه الغلام المشوه.. فلا يمكن أن يقال أن الرسول قال هذا الحديث كتفسير للآية]
قال ابن عاشور:
”وليس في كلام النبيء أن ذلك تأويل هذه الآية.. ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديث في التفسير من كتابيهما.
قال جماعة: فذلك النصف من الإنسان هو الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه، فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبه. وإطلاق الجسد على ذلك المولود إما لأنه ولد ميتا، كما هو ظاهر قوله: (شق رجل)، وإما لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد.
وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيا ولا أنه جلس على كرسي سليمان. وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلف“
- ومما قيل أيضا أن الجسد مقصود به أن سليمان رُزق بولد فقالت الشياطين: سيستمر في تسخيرنا بعد موت أبيه! فإما أن نقتله أو نصيبه بالخبال. فخاف سليمان على ولده فأصعده بالريح المسخرة ليعيش في السحاب، فما لبث إلا ووجد الولد ساقطا من السماء على عرشه جثة هامدة.
وغاب عمن اخترع هذه القصة أن آيات سورة (ص) تجعل تسخير الريح والشياطين قد جاء بعد حادثة الفتنة والجسد، لا قبلها!
قال ابن حزم:
”وكذلك نبعد قول من قال أنه كان ولدا له أرسله إلى السحاب ليربيه. فسليمان كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله بِنية البشر عليه من اللبن والطعام. وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح إسنادها قط“
- ومما قيل في تفسير الآية أن الفتنة كانت مرضا كالشلل أصاب سليمان فجعله ”مجرد جسد“، ثم شُفي منه.
يشكك في صحة هذا أن الآية لا تقول (ألقيناه) ولا (ألقينا جسده) بل ”ألقينا على كرسيه جسدا“. أي أن سليمان والجسد شيئان مختلفان.
بعض مؤيدي قصة المرض يفسرون ”ثم أناب“ بأنها (رجوع سليمان إلى الصحة) وليس على تفسير الإنابة المعروف والمستخدم في نفس السورة في قصة داود، وهو التوبة والرجوع للحق. ويعترض الألوسي على رأيهم ويصفه بأنه ”لا يَخفى سُقمه“.
- استخدام حرف العطف ”ثم“ وليس الفاء يوحي بوجود فاصل زمني بين إلقاء الجسد وبين إنابة سليمان .. مع أن المتوقع من النبي أنه يستغفر مباشرة، كما جاء في فتنة داود الواردة في نفس السورة:
وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
وتعليل هذا - كما يقول الألوسي - هو أن سليمان ”لم يعلم الداعي إلى الإنابة عقيب وقوعه.. وهذا بخلاف ما كان في قصة داود“
أي أن إلقاء الجسد على كرسيه كان مفاجأة، وظل سليمان لفترة لا يعلم سبب الفتنة، ثم لما فهم السبب أناب.
- قصة الشيطان الذي تجسد في صورة سليمان واستولى على مُلكه لها روايات كثيرة وتفاصيل خرافية، وبها افتراءات شنيعة واختراعات يهودية تشبه ما أساؤوا به لداود في توراتهم.
بعض كتب التفسير نقلت الرواية الإسرائيلية كما هي، وجعلت ”الجسد“ الذي جلس على عرش سليمان شيطانا متنكرا في صورة سليمان، أخذ يحكم بين الناس لفترة، على هواه، باسم سليمان النبي!
قال البخاري:
"جسدا: شيطانا"
وانتبه الكثير من المفسرين للامعقولية القصة من ناحية العقيدة والشرع. فلا يمكن أن يسمح الله لشعب إسرائيل أن يظنوا أنهم يطيعون نبي الله في حين أنهم في الحقيقة يطيعون شيطانا متنكرا!
قال ابن كثير:
”(ولقد فتنا سليمان) أي اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة. (وألقينا على كرسيه جسدا) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: يعني شيطانا. (ثم أناب) أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته. قال ابن جرير [الطبري]: وكان اسم ذلك الشيطان صخرا، قاله ابن عباس وقتادة. وقيل آصف، قاله مجاهد“
ينقل ابن كثير القصة الطويلة، برواياتها الإسرائيلية المختلفة، للأمانة العلمية، ثم يعلق عليها قائلا:
”إسناده إلى ابن عباس - - قوي، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه - من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات، من أشدها ذكر النساء.. فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه تشريفا وتكريما لنبيه . وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب“
ونقل الألباني عن ابن عباس قوله:
(”أربع آيات من كتاب الله لم أدرِ ما هي حتى سألت عنهن كعب الأحبار... [منها] وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب“ ومعلوم أن كعبا يرويه عن كتب اليهود)
- لا يصح أن ”مُلك سليمان كان في خاتمه“! فمعجزاته لم تكن بالخواتم السحرية، بل بعطاء إلهي.
قال الثعالبي:
”قال ابن العربي في أحكامه: وما ذكره بعض المفسرين من أن الشيطان أخذ خاتمه، وجلس مجلسه، وحكم الخلق على لسانه، قول باطل قطعا، لأن الشياطين لا يتصورون بصور الأنبياء ولا يمكنون من ذلك حتى يظن الناس أنهم مع نبيهم في حق، وهم مع الشياطين في باطل“
قال الشنقيطي :
”جملة تلك الروايات، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان، وجلس على كرسيه وطرد سليمان، إلى آخره، يوضح بطلانه قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين)، واعتراف الشيطان بذلك في قوله: (إلا عبادك منهم المخلصين)“
قال ابن حزم:
”لا نشك البتة في بطلان قول من قال أنه كان جنيا تصور بصورته، بل نقطع على أنه كذب. والله تعالى لا يهتك ستر رسوله هذا الهتك“
- تتواتر أخبار اليهود على أن سليمان نُزع عنه المُلك لفترة.. ويجعلون هذه الفترة هي سبب تأليفه لسِفر ”الجامعة/قوهيليت“ التوراتي الذي ينسبونه إليه.
ويتناقش حاخامات اليهود في تفاصيل المسألة بمواضع متفرقة من التلمود. ويبسطون قصة طويلة عن سليمان وشيطان اسمه أشموداي، وهي التي نقلها المفسرون من كعب الأحبار (التابعي الشهير الذي كان يهوديا ثم أسلم وحسن إسلامه)، لكن يسمون الشيطان آصف أو حبقيق أو صخر.
القصة الأساسية تجدها اليوم في قسم ”العقود Gittin“ من التلمود البابلي، تحت قسم Gittin 68a, 68b
وهي عندي مترجمة باختصار، في 500 كلمة تقريبا، لكن لن أنقلها هنا.
=====
- أفضل ما يفسر به القرآن هو القرآن.
فلمعرفة معنى الجسد في آية (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) علينا تتبع ورود الكلمة في السور الأخرى.
"عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ"
"وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ"
ابن الهائم:
"عجلا جسدا: أي صورة لا روح فيها، إنما هو جسد فقط"
(التبيان في تفسير غريب القرآن) (1/ 228)
الألوسي:
"وإنما قال سبحانه: جسدا، لأنه إنما تمثل بصورة غيره وهو سليمان ، وتلك الصورة المتمثلة ليس فيها روح صاحبها الحقيقي، وإنما حل في قالبها ذلك الشيطان، فلذا سميت جسدا"
الجسد مجرد وعاء للروح.
كان العجل مجرد تمثال.. صورته الخارجية عجل لكن حقيقته الداخلية مختلفة.
قال برهان الدين البقاعي:
"لما كان شديد الشبه للعجول، قيل {عجلا}، وقدم قوله {جسدا} - لنعرف أن عجليته صورة لا معنى - على قوله {له خوار} لئلا يسبق إلى وهم أنه حي، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل" (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)
وعندما طلب المشركون أن يكون الرسول ملَكا سماويا، لا مجرد شخص من البشر، قال الله
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ
وقال
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ
أي حتى لو استجيب طلبهم فسيأتي هذا الملاك في صورة بشرية خارجية، كي يكلمهم ويعلمهم دينهم.
نفهم من هذا أن الجسد هنا هو: الصورة المتجسدة في شكل مظهري يختلف عن حقيقتها ومخبرها.
=====
- قصة الخاتم السحري واستيلاء الشيطان على كرسي الحكم من سليمان وتجسده في صورة شبيه له، إلخ، موجودة في التلمود البابلي.
لكن يوجد عند اليهود تلمودان. الآخر عدد صفحاته أقل، ولا يهتم به اليهود، وهو التلمود الأورشليمي.
يشترك الاثنان في القسم الأول (وهو المشنا/المثناة) لكن يختلفان في شرح هذه المشنا. والشرح يسمى الجمارا.
فاليهود يأخذون الفقه من جمارا التلمود البابلي، لا من جمارا التلمود الأورشليمي.
تقول الموسوعة اليهودية - في إشارة عابرة لكن هامة - أن قصة الشيطان وسليمان الموجودة في التلمود البابلي تعتبر إضافة وزيادة على نص أصلي قديم موجود في التلمود الأورشاليمي.
Ashmedai, as the false Solomon, is a Babylonian elaboration of the Palestinian Haggadah concerning Solomon's punishment for his sins, which punishment consisted in the assumption of the throne by an angel; Solomon meanwhile having to wander about as a beggar
ص 24
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ
ص 34
يقول العثيمين عن قصة تجسد شيطان في صورة سليمان وسرقة "خاتم" الملك، إلخ.. أنها: باطلة بلا شك.
ثم يقول:
"ما ذكر بأنه الولد الشق، فالظاهر أنه ضعيف. بقي عندنا قولان: أحدهما أنه شيطان سُلّط على كرسي سليمان فبقي فيه وصار يدبر شؤون المملكة [أي بلا وجود خاتم ولا شبيه]، والثاني أنه سليمان نفسه سلب الله منه التفكير وتدبير شؤون المملكة فصار لا يحسن التدبير.
هذان القولان محتملان، وأقربهما إلى اللفظ الأول، أي أنه شيطان ألقي على الكرسي، لأن (جسدا) نكرة تقتضي أن يكون الملقَى غير الملقى على كرسيه، ولكن الثاني أقرب من حيث المعنى، يعني أن الله إذا سلب الإنسان عقله وتفكيره وسلطته فهو بمنزلة الجسد"
انتهى الاقتباس، من استدراكات الشيخ ابن عثيمين على تفسير الجلالين.
وقد درست المسألة من ناحيتين، قرآنية (بتتبع استخدام كلمة "جسد" في القرآن)، وإسرائيلية (بتتبع مصادر يهودية منسية)، فظهر لي رأي خامس.
أن المتجسد لم يكن شيطانا، بل ملاكا!
[يضاف لهذا أن قصة داود المذكورة في نفس السورة (سورة ص) فيها أيضا ملائكة متجسدة (حسب أشهر الأقوال في تفسير قصة الخصمين والنعاج)]
[وقصة الأقرع والأبرص والأعمى في بني إسرائيل (في البخاري ومسلم) عن اختبار الملائكة للبشر بالتجسد في صورة شخص مسكين]
- قال ابن حجر العسقلاني:
"حكى النقّاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيه.. وقد تقدم قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالجسد المذكور شيطان، وهو المعتمد.. والنقّاش صاحب مناكير"
قال المودودي في تفسيره (المترجم عن الأردية إلى الإنجليزية):
Then in the Hadith nowhere has it been said that the body that had been placed on Solomon's throne, as stated in the Qur'an, implied the malformed child. Therefore, it cannot be claimed that the Holy Prophet had narrated this event as a commentary of this verse.
[لم يرد في الحديث إطلاقا أن الجسد الذي وُضع على عرش سليمان هو نفسه الغلام المشوه.. فلا يمكن أن يقال أن الرسول قال هذا الحديث كتفسير للآية]
قال ابن عاشور:
”وليس في كلام النبيء أن ذلك تأويل هذه الآية.. ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديث في التفسير من كتابيهما.
قال جماعة: فذلك النصف من الإنسان هو الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه، فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبه. وإطلاق الجسد على ذلك المولود إما لأنه ولد ميتا، كما هو ظاهر قوله: (شق رجل)، وإما لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد.
وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيا ولا أنه جلس على كرسي سليمان. وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلف“
- ومما قيل أيضا أن الجسد مقصود به أن سليمان رُزق بولد فقالت الشياطين: سيستمر في تسخيرنا بعد موت أبيه! فإما أن نقتله أو نصيبه بالخبال. فخاف سليمان على ولده فأصعده بالريح المسخرة ليعيش في السحاب، فما لبث إلا ووجد الولد ساقطا من السماء على عرشه جثة هامدة.
وغاب عمن اخترع هذه القصة أن آيات سورة (ص) تجعل تسخير الريح والشياطين قد جاء بعد حادثة الفتنة والجسد، لا قبلها!
قال ابن حزم:
”وكذلك نبعد قول من قال أنه كان ولدا له أرسله إلى السحاب ليربيه. فسليمان كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله بِنية البشر عليه من اللبن والطعام. وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح إسنادها قط“
- ومما قيل في تفسير الآية أن الفتنة كانت مرضا كالشلل أصاب سليمان فجعله ”مجرد جسد“، ثم شُفي منه.
يشكك في صحة هذا أن الآية لا تقول (ألقيناه) ولا (ألقينا جسده) بل ”ألقينا على كرسيه جسدا“. أي أن سليمان والجسد شيئان مختلفان.
بعض مؤيدي قصة المرض يفسرون ”ثم أناب“ بأنها (رجوع سليمان إلى الصحة) وليس على تفسير الإنابة المعروف والمستخدم في نفس السورة في قصة داود، وهو التوبة والرجوع للحق. ويعترض الألوسي على رأيهم ويصفه بأنه ”لا يَخفى سُقمه“.
- استخدام حرف العطف ”ثم“ وليس الفاء يوحي بوجود فاصل زمني بين إلقاء الجسد وبين إنابة سليمان .. مع أن المتوقع من النبي أنه يستغفر مباشرة، كما جاء في فتنة داود الواردة في نفس السورة:
وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
وتعليل هذا - كما يقول الألوسي - هو أن سليمان ”لم يعلم الداعي إلى الإنابة عقيب وقوعه.. وهذا بخلاف ما كان في قصة داود“
أي أن إلقاء الجسد على كرسيه كان مفاجأة، وظل سليمان لفترة لا يعلم سبب الفتنة، ثم لما فهم السبب أناب.
- قصة الشيطان الذي تجسد في صورة سليمان واستولى على مُلكه لها روايات كثيرة وتفاصيل خرافية، وبها افتراءات شنيعة واختراعات يهودية تشبه ما أساؤوا به لداود في توراتهم.
بعض كتب التفسير نقلت الرواية الإسرائيلية كما هي، وجعلت ”الجسد“ الذي جلس على عرش سليمان شيطانا متنكرا في صورة سليمان، أخذ يحكم بين الناس لفترة، على هواه، باسم سليمان النبي!
قال البخاري:
"جسدا: شيطانا"
وانتبه الكثير من المفسرين للامعقولية القصة من ناحية العقيدة والشرع. فلا يمكن أن يسمح الله لشعب إسرائيل أن يظنوا أنهم يطيعون نبي الله في حين أنهم في الحقيقة يطيعون شيطانا متنكرا!
قال ابن كثير:
”(ولقد فتنا سليمان) أي اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة. (وألقينا على كرسيه جسدا) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: يعني شيطانا. (ثم أناب) أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته. قال ابن جرير [الطبري]: وكان اسم ذلك الشيطان صخرا، قاله ابن عباس وقتادة. وقيل آصف، قاله مجاهد“
ينقل ابن كثير القصة الطويلة، برواياتها الإسرائيلية المختلفة، للأمانة العلمية، ثم يعلق عليها قائلا:
”إسناده إلى ابن عباس - - قوي، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه - من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات، من أشدها ذكر النساء.. فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه تشريفا وتكريما لنبيه . وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب“
ونقل الألباني عن ابن عباس قوله:
(”أربع آيات من كتاب الله لم أدرِ ما هي حتى سألت عنهن كعب الأحبار... [منها] وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب“ ومعلوم أن كعبا يرويه عن كتب اليهود)
- لا يصح أن ”مُلك سليمان كان في خاتمه“! فمعجزاته لم تكن بالخواتم السحرية، بل بعطاء إلهي.
قال الثعالبي:
”قال ابن العربي في أحكامه: وما ذكره بعض المفسرين من أن الشيطان أخذ خاتمه، وجلس مجلسه، وحكم الخلق على لسانه، قول باطل قطعا، لأن الشياطين لا يتصورون بصور الأنبياء ولا يمكنون من ذلك حتى يظن الناس أنهم مع نبيهم في حق، وهم مع الشياطين في باطل“
قال الشنقيطي :
”جملة تلك الروايات، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان، وجلس على كرسيه وطرد سليمان، إلى آخره، يوضح بطلانه قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين)، واعتراف الشيطان بذلك في قوله: (إلا عبادك منهم المخلصين)“
قال ابن حزم:
”لا نشك البتة في بطلان قول من قال أنه كان جنيا تصور بصورته، بل نقطع على أنه كذب. والله تعالى لا يهتك ستر رسوله هذا الهتك“
- تتواتر أخبار اليهود على أن سليمان نُزع عنه المُلك لفترة.. ويجعلون هذه الفترة هي سبب تأليفه لسِفر ”الجامعة/قوهيليت“ التوراتي الذي ينسبونه إليه.
ويتناقش حاخامات اليهود في تفاصيل المسألة بمواضع متفرقة من التلمود. ويبسطون قصة طويلة عن سليمان وشيطان اسمه أشموداي، وهي التي نقلها المفسرون من كعب الأحبار (التابعي الشهير الذي كان يهوديا ثم أسلم وحسن إسلامه)، لكن يسمون الشيطان آصف أو حبقيق أو صخر.
القصة الأساسية تجدها اليوم في قسم ”العقود Gittin“ من التلمود البابلي، تحت قسم Gittin 68a, 68b
وهي عندي مترجمة باختصار، في 500 كلمة تقريبا، لكن لن أنقلها هنا.
=====
- أفضل ما يفسر به القرآن هو القرآن.
فلمعرفة معنى الجسد في آية (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) علينا تتبع ورود الكلمة في السور الأخرى.
"عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ"
"وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ"
ابن الهائم:
"عجلا جسدا: أي صورة لا روح فيها، إنما هو جسد فقط"
(التبيان في تفسير غريب القرآن) (1/ 228)
الألوسي:
"وإنما قال سبحانه: جسدا، لأنه إنما تمثل بصورة غيره وهو سليمان ، وتلك الصورة المتمثلة ليس فيها روح صاحبها الحقيقي، وإنما حل في قالبها ذلك الشيطان، فلذا سميت جسدا"
الجسد مجرد وعاء للروح.
كان العجل مجرد تمثال.. صورته الخارجية عجل لكن حقيقته الداخلية مختلفة.
قال برهان الدين البقاعي:
"لما كان شديد الشبه للعجول، قيل {عجلا}، وقدم قوله {جسدا} - لنعرف أن عجليته صورة لا معنى - على قوله {له خوار} لئلا يسبق إلى وهم أنه حي، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل" (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)
وعندما طلب المشركون أن يكون الرسول ملَكا سماويا، لا مجرد شخص من البشر، قال الله
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ
وقال
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ
أي حتى لو استجيب طلبهم فسيأتي هذا الملاك في صورة بشرية خارجية، كي يكلمهم ويعلمهم دينهم.
نفهم من هذا أن الجسد هنا هو: الصورة المتجسدة في شكل مظهري يختلف عن حقيقتها ومخبرها.
=====
- قصة الخاتم السحري واستيلاء الشيطان على كرسي الحكم من سليمان وتجسده في صورة شبيه له، إلخ، موجودة في التلمود البابلي.
لكن يوجد عند اليهود تلمودان. الآخر عدد صفحاته أقل، ولا يهتم به اليهود، وهو التلمود الأورشليمي.
يشترك الاثنان في القسم الأول (وهو المشنا/المثناة) لكن يختلفان في شرح هذه المشنا. والشرح يسمى الجمارا.
فاليهود يأخذون الفقه من جمارا التلمود البابلي، لا من جمارا التلمود الأورشليمي.
تقول الموسوعة اليهودية - في إشارة عابرة لكن هامة - أن قصة الشيطان وسليمان الموجودة في التلمود البابلي تعتبر إضافة وزيادة على نص أصلي قديم موجود في التلمود الأورشاليمي.
Ashmedai, as the false Solomon, is a Babylonian elaboration of the Palestinian Haggadah concerning Solomon's punishment for his sins, which punishment consisted in the assumption of the throne by an angel; Solomon meanwhile having to wander about as a beggar
فذهبت أبحث عن هذا النص المنسي..
ووجدت النص بحمد الله:
http://www.mechon-mamre.org/b/r/r4602.htm
Talmud Yerushalmi: Sanhedrin ii 6
وهو جمارا لمشنا Sanhedrin 13a
وموجود أيضا في تفسير اليهود لسفر روث/راعوث:
"The throne was taken from him for a time, as R. Yohai b Hanina said: An angel descended in the likeness of Solomon and sat upon his throne, while he went from door to door throughout Israel saying, I, Koheleth, have been king over Israel in Jerusalem (Eccl. 1:12)"
Ruth Rabbah on Ruth 2:14
אמר הקב"ה לשלמה: מה עטרה זו בראשך
قال الرب لسليمان: ما هذا التاج على رأسك؟
רד מכסאי
قم من على كرسيي!
ר' יוסי בן חנינה אמר: באותה שעה ירד מלאך
الراباي يوسي بن حنينه قال: توا (بهذه الساعة) نزل ملاك
ונדמה כדמות שלמה והמידו
- شبهه كشبه سليمان ومقاييسه -
מכסאו וישב תחתיו
على كرسيه وجلس مكانه.
نلاحظ في هذه الرواية اليهودية الثانية (المختلفة عن الرواية اليهودية الأولى المشهورة، والمنقولة في كتب التفسير) أنها مختصرة جدا، وتذكر كرسي سليمان، وتجسد ملاك في صورته، وتذكر النزول السريع (المناسب لمعنى "الإلقاء" في الآية)
[وهي مكتوبة بالأرامية، قبل نزول القرآن بحوالي قرنين كاملين]
ووجدت النص بحمد الله:
http://www.mechon-mamre.org/b/r/r4602.htm
Talmud Yerushalmi: Sanhedrin ii 6
وهو جمارا لمشنا Sanhedrin 13a
وموجود أيضا في تفسير اليهود لسفر روث/راعوث:
"The throne was taken from him for a time, as R. Yohai b Hanina said: An angel descended in the likeness of Solomon and sat upon his throne, while he went from door to door throughout Israel saying, I, Koheleth, have been king over Israel in Jerusalem (Eccl. 1:12)"
Ruth Rabbah on Ruth 2:14
אמר הקב"ה לשלמה: מה עטרה זו בראשך
قال الرب لسليمان: ما هذا التاج على رأسك؟
רד מכסאי
قم من على كرسيي!
ר' יוסי בן חנינה אמר: באותה שעה ירד מלאך
الراباي يوسي بن حنينه قال: توا (بهذه الساعة) نزل ملاك
ונדמה כדמות שלמה והמידו
- شبهه كشبه سليمان ومقاييسه -
מכסאו וישב תחתיו
على كرسيه وجلس مكانه.
نلاحظ في هذه الرواية اليهودية الثانية (المختلفة عن الرواية اليهودية الأولى المشهورة، والمنقولة في كتب التفسير) أنها مختصرة جدا، وتذكر كرسي سليمان، وتجسد ملاك في صورته، وتذكر النزول السريع (المناسب لمعنى "الإلقاء" في الآية)
[وهي مكتوبة بالأرامية، قبل نزول القرآن بحوالي قرنين كاملين]
وبهذا ينحل الإشكال/الاعتراض الشهير على رواية تجسد شيطان في صورة نبي. حيث أن المتجسد هنا ليس شيطانا، وبالتالي سيحكم بين الناس - في الفترة التي سُلب فيها الحكم من سليمان - بالحق. ولن يتعرض لجواري سليمان وزوجاته (فالملائكة مخلوقات لا جنسية).
لكن نأخذ عليها أنها جعلت سبب الفتنة والابتلاء هو توسع سليمان في مظاهر المُلك وأبهته.. مع أن التوسع ليس بمعصية، خصوصا للأنبياء الملوك مثل داود وسليمان.
فربما حرّف اليهود سبب الفتنة الأصلي.
=====
- لم أذكر كلام المفسرين عن "الخاتم الذي وجده سليمان في بطن السمكة"، ولا ترجمة القصة الموجودة في التلمود البابلي، تجنبا لتكرار الروايات الطويلة التي لا يفيد نقلها.
وتتبعت محاولات المفسرين والشراح التوفيق بين هذه الروايات وبين نص الآية وتنزيه الأنبياء عما ألصقه اليهود بسيرتهم.
- أخذ السلف التفسير من بني إسرائيل دون حرج، (ودون تصديق تام)، لأنه في قصة نبي من أنبياء بني إسرائيل، ولأنه لم يثبت عندنا نص صريح في تفسيرها. فنقل البخاري عن بعضهم أن الجسد شيطان.. ونقلوه هم من مسلمة أهل الكتاب (الناقلين عن التلمود البابلي).
ما فعلته أنا هو اقتداء بمنهج السلف، حيث رجعت لنص يهودي أقدم يصف نفس الحادثة، ومخالفاته الشرعية أقل.
وقد جمعت انتقادات العلماء للأقوال المشهورة التي قيلت في الآية، قبل طرح الرأي الجديد. فنقلت انتقادهم للربط بين حديث طواف سليمان على نسائه وبين الآية (انظر كلام ابن عاشور)، وانتقادهم لفكرة تجسد شيطان في صورة نبي، وانتقادهم اللغوي للرأي الذي يجعل الجسد الملقى هو سليمان نفسه (بسبب الضمائر المستخدمة في الآية، "ألقينا على كرسيه" لا: ألقيناه على كرسيه)
- قال البدر العيني في عمدة القاري أن سليمان أذنب ذنبا..
"فعند ذلك سقط الخاتم من يده، وكان كلما أعاده كان يسقط، فقال له آصف: إنك مفتون، ففر إلى الله تائبا من ذلك وأنا أقوم مقامك وأسير في عيالك وأهل بيتك بسيرك إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك. ففر سليمان هاربا إلى الله تعالى، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت وغاب مدة أربعين يوما، ثم أن الله تعالى لما قبل توبته رجع إلى منزله فرد الله إليه ملكه وأعاد الخاتم في يده"
وهي محاولة لا بأس بها، وإن كانت تعتمد على فكرة "الخاتم"، وهي مستبعدة، حيث قال العثيمين: "كيف يكون المُلك في خاتم فقط؟!"، وهي تفشل أيضا في تفسير كلمة "جسد" و"الإلقاء" المذكور في الآية.
=====
فائدة:
قصة فتنة داود، في حقيقتها الأصلية، هي أنه كان ملكا نبيا، في فترة من أزهى فترات بني إسرائيل التي لا يضاهيها في الغنى والقوة إلا فترة ابنه سليمان بن داود، .
وكان لداود الكثير من الزوجات، ولأحد أتباعه (يقال اسمه ”أوريا“) زوجة واحدة. ولسببٍ ما أراد داود من الرجل أن يطلقها ليتزوجها هو. يقال أنها عادة كانت مباحة في شرعهم، تشبه ما حدث من مؤاخاة بين المهاجرين والأنصار عندما كان الأنصاري يطلق إحدى نسائه كي يتزوجها المهاجر الذي ترك أهله وماله بمكة. وربما كانت قصة داود والرجل لا تخص زوجة أصلا بل إحدى الإماء التي تباع وتشترى.
الطلب وضع الرجل في وضع حرج. فداود لا يجبره على شيء، بل ”عزه في الخطاب“ أي غلبه بكلام منطقي.. ولا ننسى أن داود أوتي ”فصل الخطاب“، أي القول الفصل في الخصومات والقضايا.
لكن يبدو أن داود نسي أنه – بصفته ملِك وفي موضع قوة – ليس كباقي الناس الذين يطلبون أو يرجون من إخوانهم شيئا. فسهل أن تقول ”لا“ لأخيك في مسألة يطلبها، لكن صعب أن تقول لا لملك ولنبي!
ويمكن أن يكون داود قد سمع بذكاء وعبادة زوجة الرجل فأراد أن يكون له منها سلالة وابن نجيب، عسى أن يكون من بعده ملكا ونبيا لبني إسرائيل.
ونبّه الله داود للحرج الذي وقع فيه زوج المرأة، بأسلوب لطيف. وهو أن داود كان في محرابه يتعبد وفجأة عبر شخصان فوق سور المحراب، فأفزعه وجودهما، وربما ظنهما جاءا لاغتياله.
فتجسد الملكان في صورة شخصين متخاصمين في قضية، أحدهما له 99 نعجة والآخر له نعجة واحدة، فقال الغني للفقير: ”أعطني نعجتك أضمها لنعاجي“، وشدد في الطلب. فحكم داود في القضية بأن الطالب ظلم أخاه بهذا الطلب.. ثم تنبه فجأة أن القضية تشبه تماما قضيته مع زوج المرأة، فاستغفر في الحال فغفر الله له.
قال القرطبي:
”قيل: لما قضى داود بينهما في المسجد، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود، فأحبا أن يعرفهما، فصعدا إلى السماء حيال وجهه، فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه بذلك، ونبهه على ما ابتلاه“
أما على يد مؤلفي التوراة فنرى القصة وقد تحورت من مجرد (طلب أخوي سأله داود من الرجل ثم رجع عنه) إلى حبكة درامية كاملة، يمتلئ قلب مخترعيها اليهود بالحقد والشر والشهوة، فجعلوا داود قاتلا وزانيا.
لكن نأخذ عليها أنها جعلت سبب الفتنة والابتلاء هو توسع سليمان في مظاهر المُلك وأبهته.. مع أن التوسع ليس بمعصية، خصوصا للأنبياء الملوك مثل داود وسليمان.
فربما حرّف اليهود سبب الفتنة الأصلي.
=====
- لم أذكر كلام المفسرين عن "الخاتم الذي وجده سليمان في بطن السمكة"، ولا ترجمة القصة الموجودة في التلمود البابلي، تجنبا لتكرار الروايات الطويلة التي لا يفيد نقلها.
وتتبعت محاولات المفسرين والشراح التوفيق بين هذه الروايات وبين نص الآية وتنزيه الأنبياء عما ألصقه اليهود بسيرتهم.
- أخذ السلف التفسير من بني إسرائيل دون حرج، (ودون تصديق تام)، لأنه في قصة نبي من أنبياء بني إسرائيل، ولأنه لم يثبت عندنا نص صريح في تفسيرها. فنقل البخاري عن بعضهم أن الجسد شيطان.. ونقلوه هم من مسلمة أهل الكتاب (الناقلين عن التلمود البابلي).
ما فعلته أنا هو اقتداء بمنهج السلف، حيث رجعت لنص يهودي أقدم يصف نفس الحادثة، ومخالفاته الشرعية أقل.
وقد جمعت انتقادات العلماء للأقوال المشهورة التي قيلت في الآية، قبل طرح الرأي الجديد. فنقلت انتقادهم للربط بين حديث طواف سليمان على نسائه وبين الآية (انظر كلام ابن عاشور)، وانتقادهم لفكرة تجسد شيطان في صورة نبي، وانتقادهم اللغوي للرأي الذي يجعل الجسد الملقى هو سليمان نفسه (بسبب الضمائر المستخدمة في الآية، "ألقينا على كرسيه" لا: ألقيناه على كرسيه)
- قال البدر العيني في عمدة القاري أن سليمان أذنب ذنبا..
"فعند ذلك سقط الخاتم من يده، وكان كلما أعاده كان يسقط، فقال له آصف: إنك مفتون، ففر إلى الله تائبا من ذلك وأنا أقوم مقامك وأسير في عيالك وأهل بيتك بسيرك إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك. ففر سليمان هاربا إلى الله تعالى، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت وغاب مدة أربعين يوما، ثم أن الله تعالى لما قبل توبته رجع إلى منزله فرد الله إليه ملكه وأعاد الخاتم في يده"
وهي محاولة لا بأس بها، وإن كانت تعتمد على فكرة "الخاتم"، وهي مستبعدة، حيث قال العثيمين: "كيف يكون المُلك في خاتم فقط؟!"، وهي تفشل أيضا في تفسير كلمة "جسد" و"الإلقاء" المذكور في الآية.
=====
فائدة:
قصة فتنة داود، في حقيقتها الأصلية، هي أنه كان ملكا نبيا، في فترة من أزهى فترات بني إسرائيل التي لا يضاهيها في الغنى والقوة إلا فترة ابنه سليمان بن داود، .
وكان لداود الكثير من الزوجات، ولأحد أتباعه (يقال اسمه ”أوريا“) زوجة واحدة. ولسببٍ ما أراد داود من الرجل أن يطلقها ليتزوجها هو. يقال أنها عادة كانت مباحة في شرعهم، تشبه ما حدث من مؤاخاة بين المهاجرين والأنصار عندما كان الأنصاري يطلق إحدى نسائه كي يتزوجها المهاجر الذي ترك أهله وماله بمكة. وربما كانت قصة داود والرجل لا تخص زوجة أصلا بل إحدى الإماء التي تباع وتشترى.
الطلب وضع الرجل في وضع حرج. فداود لا يجبره على شيء، بل ”عزه في الخطاب“ أي غلبه بكلام منطقي.. ولا ننسى أن داود أوتي ”فصل الخطاب“، أي القول الفصل في الخصومات والقضايا.
لكن يبدو أن داود نسي أنه – بصفته ملِك وفي موضع قوة – ليس كباقي الناس الذين يطلبون أو يرجون من إخوانهم شيئا. فسهل أن تقول ”لا“ لأخيك في مسألة يطلبها، لكن صعب أن تقول لا لملك ولنبي!
ويمكن أن يكون داود قد سمع بذكاء وعبادة زوجة الرجل فأراد أن يكون له منها سلالة وابن نجيب، عسى أن يكون من بعده ملكا ونبيا لبني إسرائيل.
ونبّه الله داود للحرج الذي وقع فيه زوج المرأة، بأسلوب لطيف. وهو أن داود كان في محرابه يتعبد وفجأة عبر شخصان فوق سور المحراب، فأفزعه وجودهما، وربما ظنهما جاءا لاغتياله.
فتجسد الملكان في صورة شخصين متخاصمين في قضية، أحدهما له 99 نعجة والآخر له نعجة واحدة، فقال الغني للفقير: ”أعطني نعجتك أضمها لنعاجي“، وشدد في الطلب. فحكم داود في القضية بأن الطالب ظلم أخاه بهذا الطلب.. ثم تنبه فجأة أن القضية تشبه تماما قضيته مع زوج المرأة، فاستغفر في الحال فغفر الله له.
قال القرطبي:
”قيل: لما قضى داود بينهما في المسجد، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود، فأحبا أن يعرفهما، فصعدا إلى السماء حيال وجهه، فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه بذلك، ونبهه على ما ابتلاه“
أما على يد مؤلفي التوراة فنرى القصة وقد تحورت من مجرد (طلب أخوي سأله داود من الرجل ثم رجع عنه) إلى حبكة درامية كاملة، يمتلئ قلب مخترعيها اليهود بالحقد والشر والشهوة، فجعلوا داود قاتلا وزانيا.
تعليقات
إرسال تعليق