مهووس دوستويفسكي (قصة قصيرة)
مهووس دوستويفسكي
جلس
الثلاثة على الكنبة وأمامهم جهاز الكمبيوتر المحمول مفتوحا. علت منه أصوات حراب
وسكاكين وبين الحين والآخر ما يشبه صوت البازوكا. لم أكن أشاهد شيئا من
"الأكشن" فشعرت بالضيق. فقد وقع الكرسي الخشبي المتهالك هذه المرة من
نصيبي فجاء مجلسي خلف الجهاز المسنود على كرسي آخر ولم يكن يواجهني إلا ظهر الشاشة
وعليه رمز التفاحة المقضومة علامة شركة Apple. حاولت زحزحة الكرسي بزاوية لأرى فشعرت بشيء حاد يخترق مؤخرتي.
تبا لك من كرسي قديم ملئ بالمسامير. بحركة خفية تحسست المنطقة المصابة من البنطلون
ولهلعي وجدت الثقب. توقفت عن العبث به حتى لا يتسع أكثر وعدت استمع للعبة التي
كانت شاشتها الآن حمراء قانية أرى انعكاسها في نظارة طارق المحملق في الجهاز وفمه
مفتوح وكأنه نسى أن يتنفس من أنفه. "جميلة" كانت عن يمينه تشجعه
و"مدحت" عن يساره يحتل بجسده الضخم نصف الكنبة ويعطي من وقت لآخر نصائح
مثل "نسيت أن تقتل هذا!" "ادخل تحت الجسر قبل أن يلتهمك"
و"لا تجعل الأرنب يفلت منك".. تنهدت في حسرة وعدت انظر للتفاحة المقضومة
في أسى.
كانت
جميلة قد حملت اللعبة من على الإنترنت ولما عجزت عن لعبها جاءت بها لطارق عنتر
باعتباره الخبير في هذا المجال بيننا, ولم تمر إلا دقائق حتى تمكن من أزرار التحكم
وشرع يعبر المرحلة تلو الأخرى تاركا خلفه تلا من أجساد الجنود الذين تحاربهم أليس
في بلاد العجائب وهي تبحث عن الأرنب الأبيض الذي هرب منها. لعبة مسلية جدا سمعت
عنها من قبل ويجب أن أجربها فور أن ينتهي هو منها. تمنيت ألا ترحل جميلة مبكرة
وتأخذ معها جهازها الذي اشتراه لها خطيبها من السعودية.
لم
أحتمل الإثارة أكثر من ذلك فقمت ووقفت خلف الكنبة لأري ما يحدث على الشاشة. حك
طارق لحيته الكثيفة للحظة كانت كافية لأن يقع في بحر من اللافا الحارقة وتظهر كلمةGame Over بحروف سوداء كبيرة وموسيقى حزينة تصاحبها صورة أليس وقد تحولت
لهيكل عظمي كئيب المظهر.
قال
مدحت " ما هذا النحس؟ نظرة واحدة منك والبنت ماتت محروقة يا عيني"
دافعت
عن نفسي وقلت " لم أكن أنا السبب. طارق هرش ذقنه فتشتت انتباهه"
قال
طارق في عزم " سأبدأ المرحلة من البداية", لكن جميلة سحبت الجهاز
ناحيتها وهي تقول " لا.. هذا يكفي. موعد المكالمة اقترب"
"
آه.. الخطيب الولهان أهم طبعا من أصحابك. من لقى أحبابه .."
احمر
وجهها لكلام مدحت وابتسمت ثم راحت توصل طرف سلك الإنترنت بالجهاز وتضبط السماعة
فوق رأسها.
قام
مدحت وتركنا ليسخن الشاي في المطبخ فجلست مكانه بجوار طارق الذي خلع نظارته ووضعها
على المكتب وأراح رأسه للخلف وكأنه يفكر في المراحل القادمة من اللعبة. تنحنحت
وقلت بصوت خافت " ما أخبار جدتك ؟ عندك حكايات جديدة عن أفعالها مع الجيران ؟"
"
ما الذي فكرك بها الآن. على العموم بالأمس فقط كنت عندها – فهي تسكن فوقنا كما
تعرف – وجاءت فاتورة الكهرباء فكادت تصاب بأزمة قلبية عندما رأت الرقم, مع أنه أقل
من ربع ما ندفع نحن وراحت تساوم المحصل وكأنها تشتري طماطم من السوق"
كان
سؤالي لغرض ما في نفسي. فجدة طارق هي "مشروعي" الذي أعمل عليه منذ مدة
وحان وقت تنفيذه. فأنا اقرأ كثيرا, ومن قراءاتي هذه اكتشفت منذ سنة شيئا رهيبا غير
حياتي. كنت أتصفح مقدمة رواية الأبله لدوستويفسكي عندما اكتشفت أن حياتي وحياة
المؤلف متشابهتان لحد مذهل. بالطبع أنا لست روسيا ولم أعتقل أو أنفى لسيبيريا مثله
لكن الروح واحدة. اقرأ كلامه فأحس أنه يتكلم بلساني أنا. أتنبئ بنهايات قصصه قبل
أن أصل إليها. آراؤنا في تعفن الحضارة الغربية واحدة مائة بالمائة.
هزني
الاكتشاف وقررت أن اتخذ قصص هذا الكاتب العظيم مثالا أقتدي به. وكان أول ما فعلته
هو قراري أن أعطف على طفلة يتيمة مصابة بالقلب وأرعاها كما فعل بطل قصة
"مذلون مهانون" لكن تعذر ذلك ولم أجد طفلة بهذه المواصفات هذا غير أن
دخلي لا يسمح لي برعاية أحد. فكان أن أمعنت التفكير حتى اهتديت لحل بديل. فبدلا من
طفلة سأربي قطة, وبدلا من مرض القلب ستكون قطتي مصابة بالجرب. وكان هذا حلا أيسر
بمراحل. فأمام بيتنا صندوق قمامة تتجمع حوله القطط كل صباح لتنبش عن الطعام
فاستيقظت مبكرا واخترت أضعف وأقذر واحدة منها وعدت بها قبل أن يراني أحد. حممتها
ومشطت لها شعرها وأطعمتها لبنا وسمكا. لكن بعد ثلاثة أيام أخبرتني حساباتي أن
إطعام قطة لا يقل كلفة كثيرا عن إطعام طفلة فاكتفيت بإعطائها الخبز والماء, فرحلت
ولم تكلف نفسها حتى نظرة شكر وعرفان.
لم
تحبطني تجربتي الأولى وتركت تلك القصة ورائي وعدت لرواية الجريمة والعقاب. وبصدفة
غير عادية كلمني وقتها طارق عن جدته العجوز وبخلها الشديد على نفسها وأقاربها..
إلا طبعا في مسألة البسبوسة.
فكل
أسبوع تنزل لتشتري من الحلواني كيلو بسبوسة بالقشطة لتأكله وحدها بعيدا عن أنظار
الجميع. وأخبرني طارق أن لو حدث وزارها أحد وهي تقوم بهذا الطقس الأسبوعي ما فتحت
له الباب ولا ردت عليه. أما في غير هذا التبذير الأسبوعي فهي تقتر على نفسها
تقتيرا شديدا. فشقتها دائما مظلمة وملابسها قديمة لا تغيرها وفي الأعياد تكتفي
بإعطاء أحفادها ربع جنيه ورقي مجعد وكأنه تمسح به الأرضية وإن احتج أحدهم سحبته من
يده وحرمته إياه عيدين كاملين.
وقصة
الجريمة والعقاب كما هو معروف تحكي عن شاب يريد أن يثبت لنفسه أنه قادر على القتل
لو أراد فيذهب لعجوز مرابية بخيلة ومعه بلطة يخفيها تحت معطفه ويقتلها بشج رأسها
ويسرق مالها لكن الندم يتملكه في النهاية فيعترف للبوليس.
أنا
بالطبع لن أقتل أحدا بل قررت أن أكتفي بضربة خفيفة على الرأس أجري بعدها من المكان
وأكون قد حققت روح القصة على قدر ما أستطيع.
نظرت
حولي فرأيت أن جميلة قد انتهت من مكالمتها مع خطيبها فأخبرتهم أني راحل. قال مدحت
وقد عاد بالشاي " لاتنس.. سنتقابل غدا في منزل طارق في السابعة. ولا تتأخر
فعندي فيلم جديد أريد أن أريك إياه"
"
حسنا.. إلى الغد إذن" وعدت لمنزلي أخطط لمغامرتي القادمة.
في
اليوم التالي صعدت السلم ببطء ومعي في كيس قطعة خشبية وجدتها في مطبخنا ويبدو أن
أمي كانت تستخدمها في تسليك البالوعة. مررت من أمام شقة طارق ونظرت لساعتي فوجدتها
السابعة والربع. حزنت لأن هذه الفعلة التي أن مقدم عليها ستكلفني ولا شك صداقة
طارق وستجعل الآخرين ينظرون لي كمجنون. لكن هكذا يجب أن تكون الأمور, ولا بد من
تضحيات لأجل أي شيء يستحق.
وصلت
للشقة وطرقت الباب فانفتح وحده. غريبة أن تترك بابها مفتوحا هكذا. دخلت بحذر
فصعقني ما وجدت. كانت السيدة العجوز ترقد على الأرض ووجهها شديد الزرقة وبجانبها
طبق بسبوسة مفتوح ومأكول منه قطعة. نسيت الخشبة وركعت على الأرض. ملت فوقها لأسمع
تنفسها فلم أسمع شيئا. تحسست قلبها فوجدته يدق دقات ضعيفة.
لم
أعلم ماذا أفعل. فكرت أن أصرخ مستنجدا لكن الوقت كان ضيق ولن يصلوا إلينا إلا وقد
ماتت. لمحت في خاطري فكرة فشرعت في العمل فورا. دفعت أصابعي في فمها حتى وجدت ما
أبحث عنه. أخرجت قطعة البسبوسة من مجرى التنفس فسعلت العجوز وتنشقت الهواء بقوة نظرت
حولها في حيرة. وقع بصرها على الطبق المرمي على الأرض ثم على وجهي المضطرب ففهمت
كل شيء وابتسمت.
بعد
هذا اليوم صرت أنا والعجوز أعز صديقين ونظر لي أصدقائي وكأني بطل. إنه شعور جميل
أن تنقذ حياة ما, والفضل في هذا لدوستويفسكي. وها هي صداقتنا الجديدة تعود علي
بالنفع, فبالأمس أصلحت لي جدة طارق بنطلوني المثقوب.
تعليقات
إرسال تعليق