المُلكُ الجبري الديمقراطي
عمرو عبد العزيز قال ما كنت أريد قوله بالضبط، لذا أعيد نشر مقاله هنا
" تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت" - صدق رسول الله ..
إن المراحل التي حددها الرسول في حديثه عن الأمة واضحة جداً .. مرحلة النبوة ، مرحلة الخلافة الراشدة و تنتهي بنهاية عهد الخلفاء الراشدين .. مرحلة الملك العضوض و تبدأ بعهد الدولة الأموية و تنتهي بنهاية مُلك العثمانيين .. ثم مرحلة المُلك الجبري .. نهاية الملكية و بداية الحكام الظلمة المفروضين على المسلمين بشكل آخر غير الأسلوب الملكي المتعارف عليه تاريخياً .. تليها مرحلة الخلافة الأخيرة الختامية ..
فأين مرحلة (الديمقراطية) التي نعيشها الآن في ذلك التقسيم ؟ هل تخلصنا حقاً من المُلك الجبري و أصبح بمقدرة المسلمين اختيار حكامهم بحق ؟ هل حققت لنا الديمقراطية ذلك ؟
الحقيقة أن المسلمين لازال قرار اختيار حكامهم بأيدي القوى العالمية الحاكمة .. لكنها فقط غيرت وسائل اختيار الحكام .. فبدلاً من جعل أمر اختيار الرجل الجديد موكلاً الى جماعة مغلقة تقوم بوظيفة حماية أسس العلمانية و المصالح الغربية - غالباً ما تكون هي الجيوش الحديثة - فانها جعلت الشعب يختار هو بنفسه حاكماً من ضمن ثلة معينة يمكن التحكم في انتقائها بالتهديد العسكري السري أو غيرها من وسائل .. ثم لاحقاً تستخدم وسائل الاعلام بكثافة لتضليل الشعب و توجيهه الى مسار معين ليختار ما تريده القوى العالمية أو من يمكنها على الأقل التفاهم معه ..
اننا بأبسط مقياس رئيسي للديمقراطية ، ألا و هو اختيار الشعوب لحكامها ، نعيش كذبة كبرى .. فلا نحن نختار حكامنا حقاً و لا نختار مسارنا و لا نتحكم في مصائرنا ..
حقيقي أن الحريات في النظام الديمقراطي أفضل لكنها حريات الكلام و الأفعال الغير مؤثرة ، لا حريات السياسة القوية و الأفعال التي تبني الأمم و تُخرجها من تبعيتها و ذُلها ..
هل يُمكنك أن تختار حاكماً يطالب بتخصيب اليورانيوم و صنع قنابل ذرية دون عقاب دولي صارم ؟ و من أول جهة داخلية ستمنع اختيار مثل هذا الحاكم ؟
هل يمكنك أن تختار حاكماً يطالب بصنع دبابات و طائرات بكثافة دون عقاب دولي صارم ؟ و من أول جهة داخلية ستمنع اختيار مثل هذا الحاكم ؟
هل يمكنك أن تختار حاكماً يطالب بالخروج من المنظومة المالية العالمية دون عقاب دولي صارم ؟ و من أول جهة داخلية ستمنع اختيار مثل هذا الحاكم ؟
هل يمكنك أن تختار حاكماً يطالب باعلان دعم الجهاد ضد المحتلين المغتصبين دون عقاب دولي صارم ؟ و من أول جهة داخلية ستمنع اختيار مثل هذا الحاكم ؟
اذن فأي حرية تلك التي حصل عليها المسلمون في النظام الديمقراطي ؟
انهم لم يحصلوا على حرية حقيقية يمكنها صنع تهديد .. فلنتكلم كثيراً .. لا مشكلة .. و لترصد الأجهزة الأمنية كلامنا دون تدخل غشيم مُبكر كما كان يحدث في الماضي ..
لكن ان جاوزت حدود الواقع الديمقراطي الذي رسمه لك الآخر العالمي فأنت تعرف عقابك .. الوسيلة الأمنية الرئيسية للنظام الديمقراطي (الاعلام) ستضربك بقسوة .. فان لم تنحن فيمكن معالجة أمرك بعد ذلك بشكل أو بآخر فالحيل الديمقراطية كثيرة و أكثر قدرة من الحيل القمعية .. القمع هو آخر وسائل الترشيد عندما تبدي تصلباً و عناداً لا يلين ..
هذا طبعاً غير التلاعب في الانتخابات نفسها بصور لا يُمكن رصدها .. مثلاً في الانتخابات الأمريكية التي نجح بها بوش الابن قام الجمهوريون فيها بصنع تلاعب في قواعد بيانات المواطنين يُبطل أصوات الآلاف .. فإذا كان الحزب الديمقراطي الأمريكي يعتمد بصورة كبيرة على أصوات السود في تركيبة المصوتين له ، فليتم التلاعب في أصوات هؤلاء السود بطرق ملتفة شديدة الذكاء ..
هل أنت (جون) الذي قام بعمل مخالفة سير في الولاية المجاورة .. نعم القانون يعطيك الحق في التصويت .. لكن قام (البعض) بالتلاعب في قواعد البيانات بحيث تتحول هذه (الجنحة) الى (جناية) تجعل صوتك يُمنع من الاحتساب ! لماذا ؟ ربما حدث خطأ يا سيدي !
لكن المفاجأة عندما تنظر بصورة احصائية للمشهد من أعلى فتجد أن كافة الذين حدث معهم هذا الخطأ (العفوي) في هذه الولاية كانوا من السود فقط ! ثم تتبع مسار الشركة التي قامت بوضع قاعدة البيانات المعيوبة هذه فتجدها مرتبطة بالجمهوريين !
هذا مثال من عشرات الأمثلة .. لكن لماذا يصمت الديمقراطيون هناك ؟ هل هم مجرد حمائم ؟
كلا .. ليسوا كذلك قطعاً .. بل و لا تفسير لصمتهم سوى أنهم يقومون بأفعال مماثلة في أماكن أخرى ! لتتحول الانتخابات (الديمقراطية) الحرة الى فرصة للتلاعب متى جاءت الفرصة .. حريصين على ألا يبدو هذا التلاعب مستفزاً غبياً .. و هكذا يعيش الشعب الأمريكي سعيداً في ظلال الديمقراطية التي تعيشها الآن بعض الشعوب المسلمة !
إذن من يختار حُكام المسلمين في الأنظمة الديمقراطية حقاً ؟
إنه مجلس للشورى يرأسه القطب الأوحد و يضم الجماعة الوظيفية التي تحفظ له مصالحة بقوة السلاح (الجيش) ثم بعد ذلك يجئ مقعد العضو المُتغير (حسب الارادة الشعبية الموجهة!) و هو الحاكم الديمقراطي الداخلي .
إن العضو الثالث هو الأقل قدرة لأنه عضو مؤقت ليس له قدرة حقيقية مالم يقم بصنع معجزة تتلخص في اقناع الجماعة الوظيفية الحامية بأن تتبعه مهما كانت التضحيات .. ربما لهذا حافظت لجان العوائق الأولية لاختيار المرشحين على ألا يدخل مرشح يحظى بشعبية كبيرة أو القدرة البلاغية على صنعها مستقبلياً مما قد يهدد حصص المشاركين في المجلس الحاكم !
إن أمريكا تكره الحكام ذوي الشعبية مهما كان حجم ولائهم لها .. لابد من أن يشعر الحاكم التابع لها و العضو الثالث في مجلس الشورى أنه مهدد دائماً بورقة أمريكية بديلة تجعله يقاتل من أجل نيل رضاها .. ناهيك طبعاً عن أنها لن توافق على دخول مرشح ذو توجه مخيف الى المعركة أساساً .. ذكرى هتلر و الليندي و شافيز و لومومبا الآتين بالديمقرطية لاتزال تؤرقها و لن تقبل بالمغامرة بها في بلد تكمن أقوى نقطة في أهميتها العالمية المُركبة أنها تحمي الدولة الصهيونية .. و كما قال جون ستيوارت الأمريكي ساخراً عندما وجد مرشحاً شيخاً مصرياً للرئاسة في انتخابات 2012 : اننا لم نجعل عندكم ديمقراطية لهذا .. الديمقراطية عندكم مصنوعة لتأتي برجال مثلنا ! مثلنا !
اذن فالمُلك من حيث كونه (حفظ مصالح طبقة معينة ارستقراطية و جبر الشعوب على حكام مفروضين من داخل هذه الطبقة يثبتون أركان النظام القائم كما هو) لازال ثابتاً في جوهره لم يتغير .. و انما تغيرت أساليب اختيار المَلك الجبري .. بدلاً من ملك (مُحدد) مفروض بالقهر يصبح ملك (مُحدد) مفروض لكن يوحى عن طريق الاعلام الى الشعب بأنه يختاره بحرية !
إن الديمقراطية التي تعيشها بعض الشعوب الاسلامية حالياً ليست سوى حلقة جديدة من مرحلة (المُلك الجبري) التي ذكرها رسول الله في حديثه الشهير ..
لكن كيف يتم استبدال (المُلك الجبري القمعي) بالـ (مُلك الجبري الديمقراطي) ؟
إذا كانت الأجهزة الأمنية هي خط الدفاع و الهجوم الأول و الرئيسي في الأول ، فما هو خط الدفاع و الهجوم الرئيسي في الثاني ؟
انه الاعلام .. و الديمقراطية بشكل عام لا تُفهم الا بفهم دور الإعلام بداخلها .
_________________
(توطيد المُلك الجبري الديمقراطي)
التجزيئية و الفورية .. نتاجهما المسلم الضائع السلبي :
فلتتأمل هذه الأخبار المتتالية التي تنزل في خلال ساعات قليلية للمواطن :
خبر " قانون جديد للمساعدة في ضبط المسألة الفلانية "
خبر " ثورة كبيرة رداً على قانون كذا "
خبر " مسيرات رداً على قانون كذا "
أخبار متتالية فورية .. آلاف الأحداث المتعاقبة بلا توقف .. أحداث في مدينة معينة .. أحداث ساخنة في البرلمان .. الرئاسة تصنع مشكلة .. انقلاب قطار .. حادثة اغتصاب ..
الاعلام ينقل الأحداث باستمرار .. يقوم بتقديم تفسير سريع جداً لكل حادثة على حدة ثم ينتقل الى الأمر التالي بلا توقف .. مشهد جنوني مشتبك متتالي يعيش المسلم غير قادر على ملاحقته لفرط سرعته ..
هذه هي (الفورية) و تعني نقل أخبار فورية سريعة بصورة جنونية و لا تتوقف .. و (التجزيئية) و تعني تقسيم الأخبار الى قطع صغيرة لكل منها تفسير بسيط سريع يُنسى بسرعة البرق ثم يتم الانتقال الى ما يليه من خبر (فوري) له تفسير (تجزيئي) !
يعتبر هربرت شيلر أن (التجزيئية و الفورية) هما من أشد أساليب وسائل الاعلام وطأة في تضليل الأمريكان .. و هما مستخدمتان على نطاق واسع في الأنظمة الديمقراطية (أنظمة وسائل الأمن الاعلامي) ..
ما نتيجة هاتان السياستان الاعلاميتان ؟ انه المواطن السلبي الضائع .. مواطن غير قادر على الحصول على تفسير منطقي و صورة (كلية) حقيقية للمشهد السياسي الجاري أمامه .. أخبار كثيرة جداً لا يتم تقديم رابط معقول بينها تتركه حائراً مشتتاً ..
لكن ماذا اذا رغبت وسائل الاعلام في توجيهه في لحظة ما الى قضية معينة بنفس هاتان السياستان ؟ انها تنجح بشدة وقتها لأن المواطن فجأة يجد تفسيراً يريحه أخيراً من سلبيته و عدم فهمه !
مثلاً تم استخدام هذه الوسيلة التوجيهية قبل الحرب الثانية الانتقامية على الشيشان في نهاية التسعينيات .. يمكن اعتبار روسيا وقتها كانت أكثر (انفتاحاً و ديمقراطية) من الاتحاد السوفيتي القديم .. روسيا ما بعد البروسترويكا و الجلاسنوست بالتأكيد مختلفة بشكل ما .. لهذا تم استخدام وسيلة اعلامية من وسائل (الأمن الاعلامي الديمقراطي) :
فجأة حدثت تفجيرات للأبنية الروسية .. اختطاف للمواطنين .. قتل للبعض ..
عشرات الحوداث التي انفجرت في روسيا راحت تتابع و تتالى كالنافورة في وسائل الاعلام مما أصاب المواطنين بالجنون و الذعر .. في النهاية قدمت وسائل الاعلام كبش الفداء المطلوب ذبحه : انهم الشيشانيون البربر الأوغاد ! فجأة أصبحت تلك الجمهورية الصغيرة التي لا تملك على أرضها مليوني مواطن مصدر الرعب و الهلع للدب الروسي الى درجة وصوله الى أعماق أحشائه .. الى موسكو نفسها !
صدق المواطنون طبعاً و كان لابد أن يصدقوا فالحملة الاعلامية كانت كبيرة و ناجحة .. ثم بدأت حرب الابادة الروسية للشيشانيين التي قُتل فيها عشرات الآلاف من المسلمين بمباركة الشعب الروسي المُضلل .. طبعاً انكشف بعد هذا - بسبب سيولة روسيا في هذا الوقت - أن الحوادث الارهابية كانت من تدبير الكي جي بي لدرجة أنه عند اختطاف الفرنسي "فنسنت كوشيتل" ممثل مدير هيئة الإغاثة بالأمم المتحدة - وهو الاختطاف الذي ألصقه الكي جي بي بالشيشانيين كالمعتاد - لم يضيع الفرنسيون وقتهم مع هذا الكذب لفارغ و تحدثوا مع الروس مباشرة الى درجة تدخل الرئيس الفرنسي جاك شيراك بنفسه لينجح في الافراج عن مواطنه في النهاية من قبضة الروس !
اذن " التجزيئية و الفورية" تُستخدمان طوال الوقت في الأنظمة الغير معتمدة على "الأمن القمعي" كوسيلة لجعل الشعب مُضللاً تائهاً سلبياً لا يُدرك حقيقة الصورة الكلية لبلده .. هذا في وقت السلم .. أما في وقت الرغبة في تحقيق هدف ما يتم استخدامهما أيضاً بصورة تُزيد من تضليل المواطن كي يُشارك في الايمان بأهداف "السادة السياسيين" ..
فهل المجتمع المسلم ما بعد الثورات في ظل بعض الدول التي اعتمدت النظام الديمقراطي بعيد عن هذا ؟
ألا تستخدم كلاً من "الفورية و التجزيئية" على نطاق سياسي واسع لتضليله ؟
بل ألا تعتمد الأنظمة الديمقراطية نفسها على هذه "الفورية و التجزيئية" لكافة القضايا فيتوه المواطنون لأيام في مناقشات سوفسطائية على قوانين بسيطة فارغة ؟!
كانت الشعوب المسلمة بعد الثورة قد بدأت تنتفض مطالبة بالشريعة كمطلب واضح جداً .. الملايين تحركت في لحظة ما فماذا حدث بعدها ؟
التجزيئية و الفورية .. عشرات المواقف المتتالية و عشرات المخاطر التي ما ان ينتهي المسلم من عبور احداها حتى يجد الأخرى تحاول دهمه .. قانون معين سيشكل خطراً مستقبلياً .. نقاش في وسائل الاعلام عن قضية معينة تشكل خطراً على المسلمين .. تحركات سياسية تهدد طوال الوقت المطالبين بها .. حوادث جزئية و مخاطر متتالية يتم نقلها بصورة فورية لخلق هلع دائم و انتصارات خادعة يتم اكتشاف زيفها فيما بعد فتُزيد من سلبية المسلم اليائس من هذا التلاعب .. انه غير قادر على تكوين صورة كليه كاملة للموقف بسبب تتابع الأحداث و نقل الاعلام لها مباشرة بصورة فورية .. هكذا يقاتل في معارك جزئية فور ظهورها تلهيه طوال الوقت عن ما يحدث حقاً في الصورة الكلية للدولة و الأمة .. ثم وقت الحاجة يتم عمل تضليل كبير له برسم معسكرين وهميين في (المسار الديمقراطي) ليختار أحدهما بينما الصورة الكلية توضح أن المعسكرين لهما نفس الناتج و نفس المصير من حيث تحقيق مصالح (هيئة الحاكمين العليا)!
القارئ لكل هذا قد يهز رأسه في فهم و حماسة لكن المشكلة الحقيقية أنه مع تنوع المخاطر و جاذبية وسائل الاعلام الديمقراطية فانه سينشغل لا محالة بعد وقت قصير بمئات الأخبار (الفورية) ليعيش أسيراً مرة أخرى في قفص (التجزيئية) عاجزاً عن ابصار الصورة الكلية ! عاجزاً عن رؤية واقعه الحقيقي ، وبالتالي عاجزاً عن رؤية حدوده المرسومة بدقة !
_______________
(القدرة على رسم حدود الواقع هي القدرة على السيطرة) !
هذه الجملة العميقة الذكية التي قالها جيري روبين (الناشط الثوري الأمريكي) منذ زمن لو تم استيعابها جيداً لسهل فهم السياسة العالمية في مسألة الديمقراطية المُقدمة لدول العالم الثالث بشكل عام و عالم ما بعد الثورات العربية المسلم بشكل خاص .. وليس في الأمر نظرية مؤامرة ضد المسلمين بشكل خاص ، فالأمريكان مثلاً يستخدمون نفس هذا المبدأ في تضليل شعبهم نفسه ! (لا أمر شخصي في الموضوع انما هو عمل يا صديق) كما يقول المثل الأمريكي البراجماتي !
إن حدود واقعك في الديمقراطية سيكون تشكيل أحزاب .. ولوج العملية السياسية .. تقديم تنازلات تعزز فرصتك كمرشح يرضى عنه مجلس شورى الحكم .. الوصول لمكتب مجلس الشورى للجلوس سنوات أربع لابد أن تُبدي فيها الأدب و الطاعة كي يتم التجديد لك ! ثم تخرج لتُفسح المجال لغيرك بعد انتهاء مدتك !
يؤمن البعض أنه لن يتنازل أبداً .. و الحقيقة أن الدخول الى لعبة أطرافها معروفة جداً كهذه هو تنازل كبير في حد ذاته .. فبينما قد يُعذر حزب آخر مُغفل بعدم درايته بأطراف اللعبة و حقيقة مجلس الشورى الحاكم .. يبدو هذا الاعتذار واهياً بالنسبة لمن يعرف كافة الأطراف و يُصر برغم ذلك على الاشتراك فيها ..
طبعاً لا يوجد شئ اسمه الحتمية في مثل تلك المسائل .. الله وحده علام الغيوب و قد ينصر اناساً تظهر يقينك في فشلهم .. التاريخ الاسلامي فيه عشرات الأمثلة لإناس لم يكونوا بنفس النقاء العقائدي لأشخاص آخرين و مع ذلك جعل الله النصر على أيديهم .. لقد فشل صحابة و مجاهدين أتقياء في فتح القسطنطينية و نجح في فتحها رجل آخر في جيشه التباس ببدع .. لا توجد حتمية تاريخية حقيقية تسمح باليقين في فشل أو نجاح أي مسار ..
لكن هل يعني ذلك أن تسمح لنفسك بأن يتلاعب بك (الآخر) ؟ أن تسمح لنفسك بعدم كسر حدود الواقع المرسوم و بالتالي عدم الخروج من سيطرته ؟
لقد قامت الثورة الايرانية الناجحة بعمل شئ جنوني بينما البلد لازالت هشة واهنة .. لقد قامت من فورها بمحاصرة السفارة الأمريكية بعد نجاح الثورة فشغلت الأمريكان بأنفسهم و بمعتقليهم عن تدبير المؤامرات و بالتالي قطعت يد القوى العالمية المتلاعبة .. رفض الايرانيون مُبكراً جداً أن يكون حاكمهم المُختار مُجرد عضو ذليل في مجلس الشورى العالمي ، خاصة بعد أن كانوا قد قتلوا قادة الجيش و أذابوه فلم يعد لديهم سوى حاكم واحد مُختار من قبلهم .. صحيح أن أمريكا عاقبتهم فيما بعد بتحفيز صدام على الهجوم لكن ايران صمدت و خرجت في النهاية أقوى و أكثر استقلالاً ..
بينما صمد البلاشفة السوفييت في وجه جيوش الأرض و عملائهم الداخليين مضحين بالملايين من أجل نموذج اعتقدوه هو (اليوتوبيا) الأرضية التي تحكم فيها البروليتاريا الفقيرة ..
لماذا يصمد السوفييت الفقراء الضعفاء من أجل تحقيق حلمهم المادي الفاسد أمام حرب أهلية و غزو من بريطانيا و أمريكا و ألمانيا و اليابان و تشيكوسلوفاكيا و فرنسا و صربيا و اليونان و ايطاليا و الصين بينما نخاف نحن من مجرد حرب مع دولة ضعيفة هشة مثل اسرائيل ؟ هل تهددنا بالإبادة النووية ؟ هل يخاف المسلمون حقاً الموت في سبيل الله ؟ كيف يخاف المسلمون الموت النووي بينما لم يخشاه الفيتناميون في صراعهم مع الأمريكان ؟ كيف يخاف المسلمون الابادة و الجوع و قد صمد من لا يؤمن بإله مثل البلاشفة الحمر في وجه كل العالم بصمود و تمنوا الموت بلا خوف و لا وجل ؟ كيف استطاع هتلر اقناع شعبه بأن لا سبيل للرضوخ أكثر من هذا للإذلال الأوروبي و أن الموت الكريم في سبيل الاستقلال أفضل من العيش الذليل تحت جناح التبعية ؟ كيف استطاع هؤلاء الصمود هكذا مهما كانت التضحيات الشعبية بينما المسلمون و المطالبون بالشريعة من أهل الساسة يخافون اللعب "خارج حدود الواقع المرسوم" كيلا يصيبهم و يصيب شعوبهم الأذى ؟
إن الواجب الحقيقي لنا كشباب مسلم أن نفهم أولاً زيف الأنظمة الديمقراطية في دولها عامة و في دول العالم الثالث و الاسلامي خاصة .. أن نتعرف جيداً على حدود الواقع المرسوم و نحاول كسرها و الخروج من نطاقها بطرح حلول أخرى تهدم التبعية و تهدم الزيف .. أن نأخذ بنصيحة نيكسون الرئيس الأمريكي الشهيرة "عندما تخسر باستمرار عليك أن تغير قواعد اللعبة " .. نعم ، علينا أن نسعى لتغيير قواعد اللعبة كلها أساساً .. و فوق كل ذلك .. أن نُبدي مهارة في إستغلال هامش الحرية الممنوح حالياً لصنع تصور و نموذج واضح لتفكيك أكذوبة الديمقراطية .. ولكن مع الحرص على ألا نستسلم ، فالنظام الديمقراطي مُعتمد على التنويم الشعبي و الايحاء القوي و التضليل المستمر و قد أثبت الواقع أنه أصعب في الهدم من النظام القمعي الديكتاتوري .. و في نفس الوقت نحرص على ألا ينتابنا الكِبر فنهاجم بضراوة مبالغ فيها اخواننا الغارقين في محاولات كسر الواقع الحالي بفلسفات أخرى .. لا أحد يعلم يقيناً هوية من سينجح في النهاية .. لكن الأكيد أن من يتنازل منا عن دينه لن ينقلنا الى المرحلة الأخيرة من الحديث النبوي الشهير .. لن ينقلنا الى ما بعد (المُلك الجبري الديمقراطي) ..
الى مرحلة الخلافة الختامية ..
تعليقات
إرسال تعليق